مواضيع مماثلة
مدير المنتدي
أ/عمرو ... مدرس لغة عربية ودراسات اسلامية.
(صفحتناعلي الفيس بوك)
بحـث
المواضيع الأخيرة
أفضل 10 أعضاء في هذا المنتدى
Admin | ||||
نور الاسلام 11 | ||||
azize.binadgi | ||||
الحيران | ||||
tota | ||||
medo | ||||
إني عبدالله | ||||
روح الحب | ||||
mero | ||||
maya |
تسجيل صفحاتك المفضلة في مواقع خارجية
قم بحفض و مشاطرة الرابط نــــور الاســـــلام على موقع حفض الصفحات
قم بحفض و مشاطرة الرابط ('`.* منتدي نورالإسلام *.'´) :* الأستاذ/عمروإبراهيم * على موقع حفض الصفحات
face book..mr/amr
معنى نزول القرآن ومراحل تنزله
صفحة 1 من اصل 1
معنى نزول القرآن ومراحل تنزله
قال الشيخ محمد عبدالعظيم الزرقاني في كتابه : "مناهل العرفان في علوم القرآن" (1/30 ومابعدها) :
المبحث الثالث: في نزول القرآن.
هذا مبحث مهم في علوم القرآن بل هو أهم مباحثه جميعاً ؛ لأن العلم بنزول القرآن أساس للإيمان بالقرآن ، وأنه كلام الله وأساس للتصديق بنبوة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأن الإسلام حق. ثم هو أصل لسائر المباحث الآتية بعد في علوم القرآن .فلا جرم أن يتصدرها جمعاء ؛ ليكون من تقريره وتحقيقه سبيل إلى تقريرها وتحقيقها ، وإلا فكيف يقوم البناء على غير أساس ودعام ، ولأجل الإحاطة بهذا المطلب العزيز ، نتكلم إن شاء الله على معنى نزول القرآن ، ثم على مرات هذا النزول ، ودليل كل نزول وكيفيته وحكمته ، ثم على الوحي وأدلته العقلية والعلمية ، مع دفع الشبهات الواردة في ذلك المقام.
- معنى نزول القرآن.
جاء التعبير بمادة نزول القرآن وما تصرف منها في الكتاب والسنة ، ومن أمثلته : قوله سبحانه في (سورة الإسراء) (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل) [ الإسراء : 105] ، وقوله صلى الله عليه وسلم : (إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف) وهو حديث مشهور ، بل قيل فيه : بالتواتر كما سيأتي. لكن النزول في استعمال اللغة يطلق ويراد به :
-الحلول في مكان والأوي به . ومنه قولهم : (نزل الأمير المدينة) ، والمتعدي منه وهو الإنزال يكون معناه : إحلال الغير في مكان وإيوائه به ، ومنه قوله جل ذكره : ( رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين ) [المؤمنون : 29].
-ويطلق النزول إطلاقاً آخر في اللغة على انحدار الشيء من علو إلى سفل . نحو : (نزل فلان من الجبل). والمتعدي منه يكون معناه : تحريك الشيء من علو إلى سفل ، ومنه قوله سبحانه : (أنزل من السماء ماء) [الحج : 63]
ولا ريب أن كلا هذين المعنيين لا يليق إرادته هنا في إنزال الله للقرآن ، ولا في نزول القرآن من الله ؛ لما يلزم هذين المعنيين من المكانية والجسمية ، والقرآن ليس جسماً حتى يحل في مكان ، أو ينحدر من علو إلى سفل ، سواء أردنا به : الصفة القديمة المتعلقة بالكلمات الغيبية الأزلية ، أم أردنا به نفس تلك الكلمات ، أم أردنا به اللفظ المعجز ؛ لما علمت من تنزه الصفة القديمة ومتعلقها وهو الكلمات الغيبية عن الحوادث ، وأعراض الحوادث ، ولما تعرفه من أن الألفاظ أعراض سيالة تنقضي بمجرد النطق بها كما يقولون. إذن فنحن بحاجة إلى التجوز ، والمجاز بابه واسع ، وميدانه فسيح ، وليكن المعنى المجازي لإنزال القرآن هو : الإعلام في جميع إطلاقاته.
-أما على أن المراد بالقرآن الصفة القديمة أو متعلقها ، فإنزاله : الإعلام به بواسطة ما يدل عليه من النقوش بالنسبة لإنزاله في اللوح المحفوظ وفي بيت العزة من السماء الدنيا ، وبواسطة ما يدل عليه من الألفاظ الحقيقية بالنسبة لإنزاله على قلب النبي صلى الله عليه وسلم ، والعلاقة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي هي : اللزوم ؛ لأن إنزال شيء إلى شيء يستلزم إعلام من أنزل إليه ذلك الشيء به إن كان عاقلاً ، ويستلزم إعلام من يطلع عليه من الخلق به مطلقا ،ً وإذن فالمجاز مرسل.
-وأما على أن المراد بالقرآن اللفظ المعجز فمعنى إنزاله : الإعلام به أيضاً ولكن بوساطة إثباته هو ، أو إثبات داله فإثباته هو بالنسبة لإنزاله على قلب النبي صلى الله عليه وسلم ، وإثبات داله بالنسبة إلى اللوح المحفوظ وبيت العزة ، والعلاقة اللزوم كذلك ، والمجاز مرسل كسابقه.
ويمكن أن يكون هذا التجوز من قبيل الاستعارة التصريحية الأصلية ، بأن يشبه إعلام السيد لعبده بإنزال الشيء من علو إلى سفل ، بجامع أن في كل من طرفي التشبيه صدوراً من جانب أعلى إلى جانب أسفل ، وإن كان العلو والسفل في وجه الشبه حسياً بالنسبة إلى المشبه به ومعنوياً بالنسبة إلى المشبه. وأنت خبير بأن النزول مطاوع الإنزال فما يجري من التجوز في أحدهما يجري نظيره في الآخر ، وقل مثل ذلك في التنزيل والتنزل ، وكأن وجه اختيار التعبير بمادة الإنزال وما تصرف منها أو التقى معها ، هو : التنويه بشرف ذلك الكتاب نظراً إلى ما تشير إليه هذه المادة من علو صاحب هذا الكتاب المنزل علواً كبيراً ، كما قال تعالى : في فاتحة (سورة الزخرف) : (حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربياً لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم) [الزخرف : 1 - 4]. ثم إن تأويل الإنزال بالإعلام على ما رأيت هو الأقرب والأوفق بالمقام وذلك من وجوه ثلاثة :
أحدها : أن تعلق الكلام تعلق دلالة وإفهام ، ولا ريب أن القرآن كلام فتأويل إنزاله بالإعلام رجوع إلى ما هو معلوم من تعلقه ، ومفهوم من تحققه.
ثانيها : أن المقصود من ثبوت القرآن في اللوح وفي سماء الدنيا وفي قلب النبي صلى الله عليه وسلم هو : إعلام الخلق في العالمين العلوي والسفلي بما شاء الله دلالة البشر عليه من هذا الحق.
ثالثها : أن تفسير الإنزال بالإعلام ينسجم مع القرآن بأي إطلاق من إطلاقاته ، وعلى أي تنزل من تنزلاته.
- تنزلات القرآن.
شرف الله هذا القرآن بأن جعل له ثلاثة تنزلات :
أ - التنزل الأول إلى اللوح المحفوظ. ودليله قوله سبحانه : (بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ) [البروج : 21 - 22] وكان هذا الوجود في اللوح بطريقة وفي وقت لا يعلمهما إلا الله تعالى ومن أطلعه على غيبه ، وكان جملة لا مفرقاً ؛ لأنه الظاهر من اللفظ عند الإطلاق ولا صارف عنه ، ولأن أسرار تنجيم القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم لا يعقل تحققها في هذا التنزل.
وحكمة هذا النزول ترجع إلى الحكمة العامة من وجود اللوح نفسه ، وإقامته سجلاً جامعاً لكل ما قضى الله وقدر ، وكل ما كان وما يكون من عوالم الإيجاد والتكوين . فهو شاهد ناطق ومظهر من أروع المظاهر ، الدالة على عظمة الله وعلمه وإرادته وحكمته وواسع سلطانه وقدرته. ولا ريب أن الإيمان به يقوي إيمان العبد بربه من هذه النواحي ، ويبعث الطمأنينة إلى نفسه والثقة بكل ما يظهره الله لخلقه من ألوان هدايته وشرائعه وكتبه وسائر أقضيته وشؤونه في عباده ، كما يحمل الناس على السكون والرضا تحت سلطان القدر والقضاء ، ومن هنا تهون عليهم الحياة بضرائها وسرائها كما قال جل شأنه : (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور) [الحديد : 22 - 23] ا.هـ.
وللإيمان باللوح وبالكتابة فيه أثر صالح في استقامة المؤمن على الجادة ، وتفانيه في طاعة الله ومراضيه ، وبعده عن مساخطه ومعاصيه ؛ لاعتقاده أنها مسطورة عند الله في لوحه مسجلة لديه في كتابه ، كما قال جل ذكره : (وكل صغير وكبير مستطر) [القمر : 53 ] ا.هـ.
ب - التنزل الثاني للقرآن ، كان هذا التنزل الثاني إلى بيت العزة في السماء الدنيا. والدليل عليه قوله سبحانه في سورة الدخان [إنا أنزلناه في ليلة مباركة] [ الدخان : 3]. وفي سورة القدر : (إنا أنزلناه في ليلة القدر) [القدر: 1].
وفي سورة البقرة : (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) [البقرة : 185]. دلت هذه الآيات الثلاث على أن القرآن أنزل في ليلة واحدة ، توصف بأنها مباركة أخذاً من آية الدخان ، وتسمى ليلة القدر أخذاً من آية سورة القدر ، وهي من ليالي شهر رمضان أخذاً من آية البقرة. وإنما قلنا ذلك ؛ جمعاً بين هذه النصوص في العمل بها ، ودفعاً للتعارض فيما بينها. ومعلوم بالأدلة القاطعة -كما يأتي- أن القرآن أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم مفرقاً لا في ليلة واحدة ، بل في مدى سنين عدداً ، فتعين أن يكون هذا النزول الذي نوهت به هذه الآيات الثلاث ، نزولاً آخر غير النزول على النبي صلى الله عليه وسلم. وقد جاءت الأخبار الصحيحة مبينة لمكان هذا النزول ، وأنه في بيت العزة من السماء الدنيا ، كما تدل الروايات الآتية :
1 - أخرج الحاكم بسنده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال : (فصل القرآن من الذكر ، فوضع في بيت العزة من السماء الدنيا ، فجعل جبريل ينزل به على النبي صلى الله عليه وسلم).
2- وأخرج النسائي والحاكم والبيهقي من طريق داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال : (أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا ليلة القدر ، ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة ، ثم قرأ: (ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً) [الفرقان : 33] ، (وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً) [الإسراء : 106].
3 - وأخرج الحاكم والبيهقي وغيرهما من طريق منصور عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : (أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا وكان بمواقع النجوم ، وكان الله ينزله على رسوله صلى الله عليه وسلم بعضه في إثر بعض).
4 - وأخرج ابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس أنه سأله عطية بن الأسود فقال : (أوقع في قلبي الشك ، قوله تعالى : (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) [البقرة : 185] ، وقوله : (إنا أنزلناه في ليلة القدر) [القدر : 1] ، وهذا أنزل في شوال ، وفي ذي القعدة ، وفي ذي الحجة ، وفي المحرم ، وصفر ، وشهر ربيع ؟ فقال ابن عباس : إنه أنزل في رمضان في ليلة القدر جملة واحدة ، ثم أنزل على مواقع النجوم رسلاً في الشهور والأيام)
قال أبو شامة : رسلاً أي : رفقاً ، وعلى مواقع النجوم أي : على مثل مساقطها. يريد أنه أنزل في رمضان في ليلة القدر جملة واحدة ، ثم أنزل على مواقع النجوم مفرقاً يتلو بعضه بعضاً على تؤدة ورفق.
هذه أحاديث أربعة من جملة أحاديث ذكرت في هذا الباب وكلها صحيحة ، كما قال : السيوطي. وهي أحاديث موقوفة على ابن عباس غير أن لها حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لما هو مقرر من أن قول الصحابي ما لا مجال للرأي فيه ، ولم يعرف بالأخذ عن الإسرائيليات حكمه حكم المرفوع.
ولا ريب أن نزول القرآن إلى بيت العزة من أنباء الغيب التي لا تعرف إلا من المعصوم ، وابن عباس لم يعرف بالأخذ عن الإسرائيليات فثبت الاحتجاج بها. وكان هذا النزول جملة واحدة في ليلة واحدة هي ليلة القدر كما علمت ؛ لأنه المتبادر من نصوص الآيات الثلاث السابقة ، وللتنصيص على ذلك في الأحاديث التي عرضناها عليك . بل ذكر السيوطي أن القرطبي : نقل حكاية الإجماع على نزول القرآن جملة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا.
وهناك قول ثان : بنزول القرآن إلى السماء الدنيا في عشرين ليلة قدر ، أو ثلاث وعشرين ، أو خمس وعشرين ، ينزل في كل ليلة قدر منها ما يقدر الله إنزاله في كل السنة ، ثم ينزل بعد ذلك منجماً في جميع السنة على النبي صلى الله عليه وسلم .
وثمة قول ثالث : أنه ابتدىء إنزاله في ليلة القدر ، ثم نزل بعد ذلك منجماً في أوقات مختلفة من سائر الأزمان على النبي صلى الله عليه وسلم . وكأن صاحب هذا القول ينفي النزول جملة إلى بيت العزة في ليلة القدر .
وذكروا قولاً رابعاً أيضا هو : أنه نزل من اللوح المحفوظ جملة واحدة ، وأن الحفظة نجمته على جبريل في عشرين ليلة ، وأن جبريل نجمه على النبي صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة. ولكن هذه الأقوال الثلاثة الأخيرة بمعزل عن التحقيق ، وهي محجوجة بالأدلة التي سقناها بين يديك تأييداً للقول الأول.
والحكمة في هذا النزول على ما ذكره السيوطي نقلاً عن أبي شامة : هي تفخيم أمره -أي القرآن- وأمر من نزل عليه ، بإعلام سكان السموات السبع أن هذا آخر الكتب المنزلة على خاتم الرسل ، لأشرف الأمم ، وبإنزاله مرتين مرة جملة ومرة مفرقاً ، بخلاف الكتب السابقة فقد كانت تنزل جملة مرة واحدة. وذكر بعضهم أن النزول إلى السماء الدنيا ؛ إلهابا لشوق النبي صلى الله عليه وسلم إليه على حد قول القائل :
وأعظم ما يكون الشوق يوما ***** إذا دنت الخيام من الخيام
أقول : وفي تعدد النزول وأماكنه مرة في اللوح ، وأخرى في بيت العزة ، وثالثة على قلب النبي صلى الله عليه وسلم ، في ذلك التعدد مبالغة في نفي الشك عن القرآن ، وزيادة للإيمان ، وباعث على الثقة فيه ؛ لأن الكلام إذا سجل في سجلات متعددة ، وصحت له وجودات كثيرة ، كان ذلك أنفى للريب عنه ، وأدعى إلى تسليم ثبوته ، وأدنى إلى وفرة الإيقان به ، مما لو سجل في سجل واحد ، أو كان له وجود واحد.
ج - التنزل الثالث للقرآن. هذا هو واسطة عقد التنزلات ؛ لأنه المرحلة الأخيرة التي منها شع النور على العالم ، ووصلت هداية الله إلى الخلق ، وكان هذا النزول بوساطة أمين الوحي جبريل ، يهبط به على قلب النبي صلى الله عليه وسلم . ودليله قول الله تعالى في سورة الشعراء مخاطباً لرسوله عليه الصلاة والسلام : (نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين) [الشعراء : 193 - 195].
- كيفية أخذ جبريل للقرآن وعمن أخذ.
هذا من أنباء الغيب ، فلا يطمئن الإنسان إلى رأي فيه إلا إن ورد بدليل صحيح عن المعصوم ، وكل ما عثرنا عليه أقوال منثورة هنا وهناك نجمعها لك فيما يأتي مع إبداء رأينا في كل منها :
أولها : قال الطيبي : (لعل نزول القرآن على الملك أن يتلقفه تلقفاً روحانياً ، أو يحفظه من اللوح المحفوظ فينزل به على النبي صلى الله عليه وسلم فيلقيه إليه) ا. هـ .
وأنت خبير بأن كلمة (لعل) هنا لا تشفي غليلاً ، ولا تهدينا إلى المقصود سبيلاً ، ولا نستطيع أن نأخذ منها دليلاً.
ثانيها : حكى الماوردي : ( أن الحفظة نجمت القرآن على جبريل في عشرين ليلة ، وأن جبريل نجمه على النبي صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة) ا. هـ
ومعنى هذا أن جبريل أخذ القرآن عن الحفظة نجوماً عشرين ، ولكنا لا نعرف لصاحب هذا الرأي دليلاً ، ولا شبه دليل.
ثالثها : قال البيهقي في معنى قوله تعالى : (إنا أنزلناه في ليلة القدر) [ القدر : 1] (يريد والله أعلم : إنا أسمعنا الملك وأفهمناه إياه وأنزلناه بما سمع) ا. هـ .
ومعنى هذا : أن جبريل أخذ القرآن عن الله سماعا ،ً وذلك فيما أرى أمثل الأقوال من ناحية أخذ جبريل عن الله ، لا من ناحية تأويل النزول في الآية بابتداء النزول.
ويؤيده : ما أخرجه الطبراني من حديث النواس بن سمعان مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم : (إذا تكلم الله بالوحي أخذت السماء رجفة شديدة من خوف الله ، فإذا سمع أهل السماء صعقوا وخروا سجداً ، فيكون أولهم يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله بوحيه بما أراد فينتهي به إلى الملائكة ، فكلما مر بسماء سأله أهلها ما قال ربنا قال : الحق فينتهي به حيث أمر) . وأيا ما تكن هذه الأقوال فإن هذا الموضوع لا يتعلق به كبير غرض ، ما دمنا نقطع بأن مرجع التنزيل هو الله تعالى وحده .
- ما الذي نزل به جبريل.
ولتعلم في هذا المقام أن الذي نزل به جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم هو القرآن ، باعتبار أنه الألفاظ الحقيقية المعجزة من أول الفاتحة إلى آخر سورة الناس ، وتلك الألفاظ هي كلام الله وحده لا دخل لجبريل ولا لمحمد في إنشائها وترتيبها ، بل الذي رتبها أولاً : هو الله سبحانه وتعالى ؛ ولذلك تنسب له دون سواه ، وإن نطق بها جبريل ومحمد وملايين الخلق من بعد جبريل ومحمد من لدن نزول القرآن إلى يوم الساعة . وذلك : كما ينسب الكلام البشري إلى من أنشأه ورتبه في نفسه أولا دون غيره ، ولو نطق به آلاف الخلائق في آلاف الأيام والسنين إلى يوم يقوم الناس لرب العالمين . فالله جلت حكمته هو الذي أبرز ألفاظ القرآن وكلماته مرتبة على وفق ترتيب كلماته النفسية ؛ لأجل التفهيم والتفهم ، كما نبرز نحن كلامنا اللفظي على وفق كلامنا النفسي ؛ لأجل التفهيم والتفهم ولا ينسب الكلام بحال إلا إلى من رتبه في نفسه أولاً دون من اقتصر على حكايته وقراءته ؛ ولذلك لا يجوز إضافة القرآن على سبيل الإنشاء إلى جبريل أو محمد ، ولا لغير جبريل ومحمد ، كما لا يجوز نسبة كلام أنشأه شخص ورتبه في نفسه أولاً إلى شخص آخر حكاه وقرأه حين اطلع عليه أو سمعه . وقد أسف بعض الناس فزعم : أن جبريل كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بمعاني القرآن والرسول يعبر عنها بلغة العرب . وزعم آخرون : أن اللفظ لجبريل وأن الله كان يوحي إليه المعنى فقط وكلاهما قول باطل أثيم ، مصادم لصريح الكتاب والسنة والإجماع ، ولا يساوي قيمة المداد الذي يكتب به ، وعقيدتي أنه مدسوس على المسلمين في كتبهم ، وإلا فكيف يكون القرآن حينئذ معجزاً ، واللفظ لمحمد أو لجبريل ! ثم كيف تصح نسبته إلى الله واللفظ ليس لله مع أن الله يقول : (حتى يسمع كلام الله) [التوبة : 6] إلى غير ذلك مما يطول بنا تفصيله . والحق : أنه ليس لجبريل في هذا القرآن سوى حكايته للرسول وإيحائه إليه ، وليس للرسول صلى الله عليه وسلم في هذا القرآن سوى وعيه وحفظه ، ثم حكايته وتبليغه ، ثم بيانه وتفسيره ، ثم تطبيقه وتنفيذه.
نقرأ في القرآن نفسه أنه ليس من إنشاء جبريل ولا محمد نحو : (وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم) [ النمل : 6] . ونحو : (وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي) [ الأعراف : 203] . ونحو : (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم) [ يونس : 15] . ونحو : (ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين) [ الحاقة : 44 - 47] .
ثم إن ما ذكرناه هو تحقيق ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن ، وإن كان قد نزل عليه أيضاً غير القرآن. نقل السيوطي عن الجويني أنه قال : (كلام الله المنزل قسمان ، قسم : قال الله لجبريل : قل للنبي الذي أنت مرسل إليه إن الله يقول افعل كذا وكذا ، وأمر بكذا وكذا ، ففهم جبريل ما قاله ربه ، ثم نزل على ذلك النبي ، وقال له ما قاله ربه. ولم تكن العبارة تلك العبارة ، كما يقول الملك لمن يثق به : قل لفلان يقول لك الملك اجتهد في الخدمة ، واجمع جندك للقتال ، فإن قال الرسول : يقول لك الملك لا تتهاون في خدمتي ، ولا تترك الجند يتفرق ، وحثهم على المقاتلة ، لا ينسب إلى كذب ولا تقصير في أداء الرسالة . وقسم آخر : قال الله لجبريل : اقرأ على النبي هذا الكتاب فنزل به جبريل من الله من غير تغيير ، كما يكتب الملك كتاباً ويسلمه إلى أمين ويقول : اقرأه على فلان فهو لا يغير منه كلمة ولا حرفا) ا. هـ
قال السيوطي بعد ذلك : (قلت : (القرآن) هو القسم الثاني ، والقسم الأول : هو (السنة) كما ورد أن جبريل كان ينزل بالسنة كما ينزل بالقرآن ، ومن هنا جاز رواية السنة بالمعنى ؛ لأن جبريل أداها بالمعنى ، ولم تجز القراءة بالمعنى ؛ لأن جبريل أدى القرآن باللفظ ، ولم يبح له أداؤه بالمعنى .
والسر في ذلك : أن المقصود منه التعبد بلفظه ، والإعجاز به ، فلا يقدر أحد أن يأتي بلفظ يقوم مقامه ، وأن تحت كل حرف منه معاني لا يحاط بها كثرة ، فلا يقدر أحد أن يأتي بدله بما يشتمل عليه. والتخفيف على الأمة حيث جعل المنزل إليهم على قسمين : قسم يروونه بلفظه الموحى به ، وقسم يروونه بالمعنى ، ولو جعل كله مما يروى باللفظ ؛ لشق أو بالمعنى ؛ لم يؤمن التبديل والتحريف فتأمل) ا. هـ
أقول : وهذا كلام نفيس بيد أنه لا دليل أمامنا على أن جبريل كان يتصرف في الألفاظ الموحاة إليه في غير القرآن ، وما ذكره الجويني فهو احتمال عقلي لا يكفي في هذا الباب ، ثم إن هذا التقسيم خلا من قسيم ثالث للكتاب والسنة ، وهو (الحديث القدسي) الذي قاله الرسول صلى الله عليه وسلم حاكياً عن الله تعالى ، فهو كلام الله تعالى أيضاً غير أنه ليست فيه خصائص القرآن التي امتاز بها عن كل ما سواه . ولله تعالى حكمة في أن يجعل من كلامه المنزل معجزاً ، وغير معجز لمثل ما سبق في حكمة التقسيم الآنف من إقامة حجة للرسول ، ولدين الحق بكلام الله المعجز ، ومن التخفيف على الأمة بغير المعجز ؛ لأنه تصح روايته بالمعنى ، وقراءة الجنب ، وحمله له ، ومسه إياه ، إلى غير ذلك .
وصفوة القول في هذا المقام : أن القرآن أوحيت ألفاظه من الله اتفاقاً ، وأن الحديث القدسي أوحيت ألفاظه من الله على المشهور ، والحديث النبوي أوحيت معانيه في غير ما اجتهد فيه الرسول والألفاظ من الرسول صلى الله عليه وسلم ، بيد أن القرآن له خصائصه من الإعجاز ، والتعبد به ، ووجوب المحافظة على أدائه بلفظه ، ونحو ذلك ، وليس للحديث القدسي والنبوي شيء من هذه الخصائص .
والحكمة في هذا التفريق : أن الإعجاز منوط بألفاظ القرآن ، فلو أبيح أداؤه بالمعنى لذهب إعجازه ، وكان مظنة للتغيير والتبديل ، واختلاف الناس في أصل التشريع والتنزيل. أما الحديث القدسي والحديث النبوي فليست ألفاظهما مناط إعجاز ؛ ولهذا أباح الله روايتهما بالمعنى ، ولم يمنحهما تلك الخصائص والقداسة الممتازة التي منحها القرآن الكريم ؛ تخفيفاً على الأمة ، ورعاية لمصالح الخلق في الحالين من منح ومنع ، ( إن الله بالناس لرؤوف رحيم ) [الحج : 65] . انتهى المقصود من النقل .
منقول
http://www.nokhbah.net/vb/showthread.php?t=4155
المبحث الثالث: في نزول القرآن.
هذا مبحث مهم في علوم القرآن بل هو أهم مباحثه جميعاً ؛ لأن العلم بنزول القرآن أساس للإيمان بالقرآن ، وأنه كلام الله وأساس للتصديق بنبوة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأن الإسلام حق. ثم هو أصل لسائر المباحث الآتية بعد في علوم القرآن .فلا جرم أن يتصدرها جمعاء ؛ ليكون من تقريره وتحقيقه سبيل إلى تقريرها وتحقيقها ، وإلا فكيف يقوم البناء على غير أساس ودعام ، ولأجل الإحاطة بهذا المطلب العزيز ، نتكلم إن شاء الله على معنى نزول القرآن ، ثم على مرات هذا النزول ، ودليل كل نزول وكيفيته وحكمته ، ثم على الوحي وأدلته العقلية والعلمية ، مع دفع الشبهات الواردة في ذلك المقام.
- معنى نزول القرآن.
جاء التعبير بمادة نزول القرآن وما تصرف منها في الكتاب والسنة ، ومن أمثلته : قوله سبحانه في (سورة الإسراء) (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل) [ الإسراء : 105] ، وقوله صلى الله عليه وسلم : (إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف) وهو حديث مشهور ، بل قيل فيه : بالتواتر كما سيأتي. لكن النزول في استعمال اللغة يطلق ويراد به :
-الحلول في مكان والأوي به . ومنه قولهم : (نزل الأمير المدينة) ، والمتعدي منه وهو الإنزال يكون معناه : إحلال الغير في مكان وإيوائه به ، ومنه قوله جل ذكره : ( رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين ) [المؤمنون : 29].
-ويطلق النزول إطلاقاً آخر في اللغة على انحدار الشيء من علو إلى سفل . نحو : (نزل فلان من الجبل). والمتعدي منه يكون معناه : تحريك الشيء من علو إلى سفل ، ومنه قوله سبحانه : (أنزل من السماء ماء) [الحج : 63]
ولا ريب أن كلا هذين المعنيين لا يليق إرادته هنا في إنزال الله للقرآن ، ولا في نزول القرآن من الله ؛ لما يلزم هذين المعنيين من المكانية والجسمية ، والقرآن ليس جسماً حتى يحل في مكان ، أو ينحدر من علو إلى سفل ، سواء أردنا به : الصفة القديمة المتعلقة بالكلمات الغيبية الأزلية ، أم أردنا به نفس تلك الكلمات ، أم أردنا به اللفظ المعجز ؛ لما علمت من تنزه الصفة القديمة ومتعلقها وهو الكلمات الغيبية عن الحوادث ، وأعراض الحوادث ، ولما تعرفه من أن الألفاظ أعراض سيالة تنقضي بمجرد النطق بها كما يقولون. إذن فنحن بحاجة إلى التجوز ، والمجاز بابه واسع ، وميدانه فسيح ، وليكن المعنى المجازي لإنزال القرآن هو : الإعلام في جميع إطلاقاته.
-أما على أن المراد بالقرآن الصفة القديمة أو متعلقها ، فإنزاله : الإعلام به بواسطة ما يدل عليه من النقوش بالنسبة لإنزاله في اللوح المحفوظ وفي بيت العزة من السماء الدنيا ، وبواسطة ما يدل عليه من الألفاظ الحقيقية بالنسبة لإنزاله على قلب النبي صلى الله عليه وسلم ، والعلاقة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي هي : اللزوم ؛ لأن إنزال شيء إلى شيء يستلزم إعلام من أنزل إليه ذلك الشيء به إن كان عاقلاً ، ويستلزم إعلام من يطلع عليه من الخلق به مطلقا ،ً وإذن فالمجاز مرسل.
-وأما على أن المراد بالقرآن اللفظ المعجز فمعنى إنزاله : الإعلام به أيضاً ولكن بوساطة إثباته هو ، أو إثبات داله فإثباته هو بالنسبة لإنزاله على قلب النبي صلى الله عليه وسلم ، وإثبات داله بالنسبة إلى اللوح المحفوظ وبيت العزة ، والعلاقة اللزوم كذلك ، والمجاز مرسل كسابقه.
ويمكن أن يكون هذا التجوز من قبيل الاستعارة التصريحية الأصلية ، بأن يشبه إعلام السيد لعبده بإنزال الشيء من علو إلى سفل ، بجامع أن في كل من طرفي التشبيه صدوراً من جانب أعلى إلى جانب أسفل ، وإن كان العلو والسفل في وجه الشبه حسياً بالنسبة إلى المشبه به ومعنوياً بالنسبة إلى المشبه. وأنت خبير بأن النزول مطاوع الإنزال فما يجري من التجوز في أحدهما يجري نظيره في الآخر ، وقل مثل ذلك في التنزيل والتنزل ، وكأن وجه اختيار التعبير بمادة الإنزال وما تصرف منها أو التقى معها ، هو : التنويه بشرف ذلك الكتاب نظراً إلى ما تشير إليه هذه المادة من علو صاحب هذا الكتاب المنزل علواً كبيراً ، كما قال تعالى : في فاتحة (سورة الزخرف) : (حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربياً لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم) [الزخرف : 1 - 4]. ثم إن تأويل الإنزال بالإعلام على ما رأيت هو الأقرب والأوفق بالمقام وذلك من وجوه ثلاثة :
أحدها : أن تعلق الكلام تعلق دلالة وإفهام ، ولا ريب أن القرآن كلام فتأويل إنزاله بالإعلام رجوع إلى ما هو معلوم من تعلقه ، ومفهوم من تحققه.
ثانيها : أن المقصود من ثبوت القرآن في اللوح وفي سماء الدنيا وفي قلب النبي صلى الله عليه وسلم هو : إعلام الخلق في العالمين العلوي والسفلي بما شاء الله دلالة البشر عليه من هذا الحق.
ثالثها : أن تفسير الإنزال بالإعلام ينسجم مع القرآن بأي إطلاق من إطلاقاته ، وعلى أي تنزل من تنزلاته.
- تنزلات القرآن.
شرف الله هذا القرآن بأن جعل له ثلاثة تنزلات :
أ - التنزل الأول إلى اللوح المحفوظ. ودليله قوله سبحانه : (بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ) [البروج : 21 - 22] وكان هذا الوجود في اللوح بطريقة وفي وقت لا يعلمهما إلا الله تعالى ومن أطلعه على غيبه ، وكان جملة لا مفرقاً ؛ لأنه الظاهر من اللفظ عند الإطلاق ولا صارف عنه ، ولأن أسرار تنجيم القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم لا يعقل تحققها في هذا التنزل.
وحكمة هذا النزول ترجع إلى الحكمة العامة من وجود اللوح نفسه ، وإقامته سجلاً جامعاً لكل ما قضى الله وقدر ، وكل ما كان وما يكون من عوالم الإيجاد والتكوين . فهو شاهد ناطق ومظهر من أروع المظاهر ، الدالة على عظمة الله وعلمه وإرادته وحكمته وواسع سلطانه وقدرته. ولا ريب أن الإيمان به يقوي إيمان العبد بربه من هذه النواحي ، ويبعث الطمأنينة إلى نفسه والثقة بكل ما يظهره الله لخلقه من ألوان هدايته وشرائعه وكتبه وسائر أقضيته وشؤونه في عباده ، كما يحمل الناس على السكون والرضا تحت سلطان القدر والقضاء ، ومن هنا تهون عليهم الحياة بضرائها وسرائها كما قال جل شأنه : (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور) [الحديد : 22 - 23] ا.هـ.
وللإيمان باللوح وبالكتابة فيه أثر صالح في استقامة المؤمن على الجادة ، وتفانيه في طاعة الله ومراضيه ، وبعده عن مساخطه ومعاصيه ؛ لاعتقاده أنها مسطورة عند الله في لوحه مسجلة لديه في كتابه ، كما قال جل ذكره : (وكل صغير وكبير مستطر) [القمر : 53 ] ا.هـ.
ب - التنزل الثاني للقرآن ، كان هذا التنزل الثاني إلى بيت العزة في السماء الدنيا. والدليل عليه قوله سبحانه في سورة الدخان [إنا أنزلناه في ليلة مباركة] [ الدخان : 3]. وفي سورة القدر : (إنا أنزلناه في ليلة القدر) [القدر: 1].
وفي سورة البقرة : (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) [البقرة : 185]. دلت هذه الآيات الثلاث على أن القرآن أنزل في ليلة واحدة ، توصف بأنها مباركة أخذاً من آية الدخان ، وتسمى ليلة القدر أخذاً من آية سورة القدر ، وهي من ليالي شهر رمضان أخذاً من آية البقرة. وإنما قلنا ذلك ؛ جمعاً بين هذه النصوص في العمل بها ، ودفعاً للتعارض فيما بينها. ومعلوم بالأدلة القاطعة -كما يأتي- أن القرآن أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم مفرقاً لا في ليلة واحدة ، بل في مدى سنين عدداً ، فتعين أن يكون هذا النزول الذي نوهت به هذه الآيات الثلاث ، نزولاً آخر غير النزول على النبي صلى الله عليه وسلم. وقد جاءت الأخبار الصحيحة مبينة لمكان هذا النزول ، وأنه في بيت العزة من السماء الدنيا ، كما تدل الروايات الآتية :
1 - أخرج الحاكم بسنده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال : (فصل القرآن من الذكر ، فوضع في بيت العزة من السماء الدنيا ، فجعل جبريل ينزل به على النبي صلى الله عليه وسلم).
2- وأخرج النسائي والحاكم والبيهقي من طريق داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال : (أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا ليلة القدر ، ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة ، ثم قرأ: (ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً) [الفرقان : 33] ، (وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً) [الإسراء : 106].
3 - وأخرج الحاكم والبيهقي وغيرهما من طريق منصور عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : (أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا وكان بمواقع النجوم ، وكان الله ينزله على رسوله صلى الله عليه وسلم بعضه في إثر بعض).
4 - وأخرج ابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس أنه سأله عطية بن الأسود فقال : (أوقع في قلبي الشك ، قوله تعالى : (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) [البقرة : 185] ، وقوله : (إنا أنزلناه في ليلة القدر) [القدر : 1] ، وهذا أنزل في شوال ، وفي ذي القعدة ، وفي ذي الحجة ، وفي المحرم ، وصفر ، وشهر ربيع ؟ فقال ابن عباس : إنه أنزل في رمضان في ليلة القدر جملة واحدة ، ثم أنزل على مواقع النجوم رسلاً في الشهور والأيام)
قال أبو شامة : رسلاً أي : رفقاً ، وعلى مواقع النجوم أي : على مثل مساقطها. يريد أنه أنزل في رمضان في ليلة القدر جملة واحدة ، ثم أنزل على مواقع النجوم مفرقاً يتلو بعضه بعضاً على تؤدة ورفق.
هذه أحاديث أربعة من جملة أحاديث ذكرت في هذا الباب وكلها صحيحة ، كما قال : السيوطي. وهي أحاديث موقوفة على ابن عباس غير أن لها حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لما هو مقرر من أن قول الصحابي ما لا مجال للرأي فيه ، ولم يعرف بالأخذ عن الإسرائيليات حكمه حكم المرفوع.
ولا ريب أن نزول القرآن إلى بيت العزة من أنباء الغيب التي لا تعرف إلا من المعصوم ، وابن عباس لم يعرف بالأخذ عن الإسرائيليات فثبت الاحتجاج بها. وكان هذا النزول جملة واحدة في ليلة واحدة هي ليلة القدر كما علمت ؛ لأنه المتبادر من نصوص الآيات الثلاث السابقة ، وللتنصيص على ذلك في الأحاديث التي عرضناها عليك . بل ذكر السيوطي أن القرطبي : نقل حكاية الإجماع على نزول القرآن جملة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا.
وهناك قول ثان : بنزول القرآن إلى السماء الدنيا في عشرين ليلة قدر ، أو ثلاث وعشرين ، أو خمس وعشرين ، ينزل في كل ليلة قدر منها ما يقدر الله إنزاله في كل السنة ، ثم ينزل بعد ذلك منجماً في جميع السنة على النبي صلى الله عليه وسلم .
وثمة قول ثالث : أنه ابتدىء إنزاله في ليلة القدر ، ثم نزل بعد ذلك منجماً في أوقات مختلفة من سائر الأزمان على النبي صلى الله عليه وسلم . وكأن صاحب هذا القول ينفي النزول جملة إلى بيت العزة في ليلة القدر .
وذكروا قولاً رابعاً أيضا هو : أنه نزل من اللوح المحفوظ جملة واحدة ، وأن الحفظة نجمته على جبريل في عشرين ليلة ، وأن جبريل نجمه على النبي صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة. ولكن هذه الأقوال الثلاثة الأخيرة بمعزل عن التحقيق ، وهي محجوجة بالأدلة التي سقناها بين يديك تأييداً للقول الأول.
والحكمة في هذا النزول على ما ذكره السيوطي نقلاً عن أبي شامة : هي تفخيم أمره -أي القرآن- وأمر من نزل عليه ، بإعلام سكان السموات السبع أن هذا آخر الكتب المنزلة على خاتم الرسل ، لأشرف الأمم ، وبإنزاله مرتين مرة جملة ومرة مفرقاً ، بخلاف الكتب السابقة فقد كانت تنزل جملة مرة واحدة. وذكر بعضهم أن النزول إلى السماء الدنيا ؛ إلهابا لشوق النبي صلى الله عليه وسلم إليه على حد قول القائل :
وأعظم ما يكون الشوق يوما ***** إذا دنت الخيام من الخيام
أقول : وفي تعدد النزول وأماكنه مرة في اللوح ، وأخرى في بيت العزة ، وثالثة على قلب النبي صلى الله عليه وسلم ، في ذلك التعدد مبالغة في نفي الشك عن القرآن ، وزيادة للإيمان ، وباعث على الثقة فيه ؛ لأن الكلام إذا سجل في سجلات متعددة ، وصحت له وجودات كثيرة ، كان ذلك أنفى للريب عنه ، وأدعى إلى تسليم ثبوته ، وأدنى إلى وفرة الإيقان به ، مما لو سجل في سجل واحد ، أو كان له وجود واحد.
ج - التنزل الثالث للقرآن. هذا هو واسطة عقد التنزلات ؛ لأنه المرحلة الأخيرة التي منها شع النور على العالم ، ووصلت هداية الله إلى الخلق ، وكان هذا النزول بوساطة أمين الوحي جبريل ، يهبط به على قلب النبي صلى الله عليه وسلم . ودليله قول الله تعالى في سورة الشعراء مخاطباً لرسوله عليه الصلاة والسلام : (نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين) [الشعراء : 193 - 195].
- كيفية أخذ جبريل للقرآن وعمن أخذ.
هذا من أنباء الغيب ، فلا يطمئن الإنسان إلى رأي فيه إلا إن ورد بدليل صحيح عن المعصوم ، وكل ما عثرنا عليه أقوال منثورة هنا وهناك نجمعها لك فيما يأتي مع إبداء رأينا في كل منها :
أولها : قال الطيبي : (لعل نزول القرآن على الملك أن يتلقفه تلقفاً روحانياً ، أو يحفظه من اللوح المحفوظ فينزل به على النبي صلى الله عليه وسلم فيلقيه إليه) ا. هـ .
وأنت خبير بأن كلمة (لعل) هنا لا تشفي غليلاً ، ولا تهدينا إلى المقصود سبيلاً ، ولا نستطيع أن نأخذ منها دليلاً.
ثانيها : حكى الماوردي : ( أن الحفظة نجمت القرآن على جبريل في عشرين ليلة ، وأن جبريل نجمه على النبي صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة) ا. هـ
ومعنى هذا أن جبريل أخذ القرآن عن الحفظة نجوماً عشرين ، ولكنا لا نعرف لصاحب هذا الرأي دليلاً ، ولا شبه دليل.
ثالثها : قال البيهقي في معنى قوله تعالى : (إنا أنزلناه في ليلة القدر) [ القدر : 1] (يريد والله أعلم : إنا أسمعنا الملك وأفهمناه إياه وأنزلناه بما سمع) ا. هـ .
ومعنى هذا : أن جبريل أخذ القرآن عن الله سماعا ،ً وذلك فيما أرى أمثل الأقوال من ناحية أخذ جبريل عن الله ، لا من ناحية تأويل النزول في الآية بابتداء النزول.
ويؤيده : ما أخرجه الطبراني من حديث النواس بن سمعان مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم : (إذا تكلم الله بالوحي أخذت السماء رجفة شديدة من خوف الله ، فإذا سمع أهل السماء صعقوا وخروا سجداً ، فيكون أولهم يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله بوحيه بما أراد فينتهي به إلى الملائكة ، فكلما مر بسماء سأله أهلها ما قال ربنا قال : الحق فينتهي به حيث أمر) . وأيا ما تكن هذه الأقوال فإن هذا الموضوع لا يتعلق به كبير غرض ، ما دمنا نقطع بأن مرجع التنزيل هو الله تعالى وحده .
- ما الذي نزل به جبريل.
ولتعلم في هذا المقام أن الذي نزل به جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم هو القرآن ، باعتبار أنه الألفاظ الحقيقية المعجزة من أول الفاتحة إلى آخر سورة الناس ، وتلك الألفاظ هي كلام الله وحده لا دخل لجبريل ولا لمحمد في إنشائها وترتيبها ، بل الذي رتبها أولاً : هو الله سبحانه وتعالى ؛ ولذلك تنسب له دون سواه ، وإن نطق بها جبريل ومحمد وملايين الخلق من بعد جبريل ومحمد من لدن نزول القرآن إلى يوم الساعة . وذلك : كما ينسب الكلام البشري إلى من أنشأه ورتبه في نفسه أولا دون غيره ، ولو نطق به آلاف الخلائق في آلاف الأيام والسنين إلى يوم يقوم الناس لرب العالمين . فالله جلت حكمته هو الذي أبرز ألفاظ القرآن وكلماته مرتبة على وفق ترتيب كلماته النفسية ؛ لأجل التفهيم والتفهم ، كما نبرز نحن كلامنا اللفظي على وفق كلامنا النفسي ؛ لأجل التفهيم والتفهم ولا ينسب الكلام بحال إلا إلى من رتبه في نفسه أولاً دون من اقتصر على حكايته وقراءته ؛ ولذلك لا يجوز إضافة القرآن على سبيل الإنشاء إلى جبريل أو محمد ، ولا لغير جبريل ومحمد ، كما لا يجوز نسبة كلام أنشأه شخص ورتبه في نفسه أولاً إلى شخص آخر حكاه وقرأه حين اطلع عليه أو سمعه . وقد أسف بعض الناس فزعم : أن جبريل كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بمعاني القرآن والرسول يعبر عنها بلغة العرب . وزعم آخرون : أن اللفظ لجبريل وأن الله كان يوحي إليه المعنى فقط وكلاهما قول باطل أثيم ، مصادم لصريح الكتاب والسنة والإجماع ، ولا يساوي قيمة المداد الذي يكتب به ، وعقيدتي أنه مدسوس على المسلمين في كتبهم ، وإلا فكيف يكون القرآن حينئذ معجزاً ، واللفظ لمحمد أو لجبريل ! ثم كيف تصح نسبته إلى الله واللفظ ليس لله مع أن الله يقول : (حتى يسمع كلام الله) [التوبة : 6] إلى غير ذلك مما يطول بنا تفصيله . والحق : أنه ليس لجبريل في هذا القرآن سوى حكايته للرسول وإيحائه إليه ، وليس للرسول صلى الله عليه وسلم في هذا القرآن سوى وعيه وحفظه ، ثم حكايته وتبليغه ، ثم بيانه وتفسيره ، ثم تطبيقه وتنفيذه.
نقرأ في القرآن نفسه أنه ليس من إنشاء جبريل ولا محمد نحو : (وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم) [ النمل : 6] . ونحو : (وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي) [ الأعراف : 203] . ونحو : (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم) [ يونس : 15] . ونحو : (ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين) [ الحاقة : 44 - 47] .
ثم إن ما ذكرناه هو تحقيق ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن ، وإن كان قد نزل عليه أيضاً غير القرآن. نقل السيوطي عن الجويني أنه قال : (كلام الله المنزل قسمان ، قسم : قال الله لجبريل : قل للنبي الذي أنت مرسل إليه إن الله يقول افعل كذا وكذا ، وأمر بكذا وكذا ، ففهم جبريل ما قاله ربه ، ثم نزل على ذلك النبي ، وقال له ما قاله ربه. ولم تكن العبارة تلك العبارة ، كما يقول الملك لمن يثق به : قل لفلان يقول لك الملك اجتهد في الخدمة ، واجمع جندك للقتال ، فإن قال الرسول : يقول لك الملك لا تتهاون في خدمتي ، ولا تترك الجند يتفرق ، وحثهم على المقاتلة ، لا ينسب إلى كذب ولا تقصير في أداء الرسالة . وقسم آخر : قال الله لجبريل : اقرأ على النبي هذا الكتاب فنزل به جبريل من الله من غير تغيير ، كما يكتب الملك كتاباً ويسلمه إلى أمين ويقول : اقرأه على فلان فهو لا يغير منه كلمة ولا حرفا) ا. هـ
قال السيوطي بعد ذلك : (قلت : (القرآن) هو القسم الثاني ، والقسم الأول : هو (السنة) كما ورد أن جبريل كان ينزل بالسنة كما ينزل بالقرآن ، ومن هنا جاز رواية السنة بالمعنى ؛ لأن جبريل أداها بالمعنى ، ولم تجز القراءة بالمعنى ؛ لأن جبريل أدى القرآن باللفظ ، ولم يبح له أداؤه بالمعنى .
والسر في ذلك : أن المقصود منه التعبد بلفظه ، والإعجاز به ، فلا يقدر أحد أن يأتي بلفظ يقوم مقامه ، وأن تحت كل حرف منه معاني لا يحاط بها كثرة ، فلا يقدر أحد أن يأتي بدله بما يشتمل عليه. والتخفيف على الأمة حيث جعل المنزل إليهم على قسمين : قسم يروونه بلفظه الموحى به ، وقسم يروونه بالمعنى ، ولو جعل كله مما يروى باللفظ ؛ لشق أو بالمعنى ؛ لم يؤمن التبديل والتحريف فتأمل) ا. هـ
أقول : وهذا كلام نفيس بيد أنه لا دليل أمامنا على أن جبريل كان يتصرف في الألفاظ الموحاة إليه في غير القرآن ، وما ذكره الجويني فهو احتمال عقلي لا يكفي في هذا الباب ، ثم إن هذا التقسيم خلا من قسيم ثالث للكتاب والسنة ، وهو (الحديث القدسي) الذي قاله الرسول صلى الله عليه وسلم حاكياً عن الله تعالى ، فهو كلام الله تعالى أيضاً غير أنه ليست فيه خصائص القرآن التي امتاز بها عن كل ما سواه . ولله تعالى حكمة في أن يجعل من كلامه المنزل معجزاً ، وغير معجز لمثل ما سبق في حكمة التقسيم الآنف من إقامة حجة للرسول ، ولدين الحق بكلام الله المعجز ، ومن التخفيف على الأمة بغير المعجز ؛ لأنه تصح روايته بالمعنى ، وقراءة الجنب ، وحمله له ، ومسه إياه ، إلى غير ذلك .
وصفوة القول في هذا المقام : أن القرآن أوحيت ألفاظه من الله اتفاقاً ، وأن الحديث القدسي أوحيت ألفاظه من الله على المشهور ، والحديث النبوي أوحيت معانيه في غير ما اجتهد فيه الرسول والألفاظ من الرسول صلى الله عليه وسلم ، بيد أن القرآن له خصائصه من الإعجاز ، والتعبد به ، ووجوب المحافظة على أدائه بلفظه ، ونحو ذلك ، وليس للحديث القدسي والنبوي شيء من هذه الخصائص .
والحكمة في هذا التفريق : أن الإعجاز منوط بألفاظ القرآن ، فلو أبيح أداؤه بالمعنى لذهب إعجازه ، وكان مظنة للتغيير والتبديل ، واختلاف الناس في أصل التشريع والتنزيل. أما الحديث القدسي والحديث النبوي فليست ألفاظهما مناط إعجاز ؛ ولهذا أباح الله روايتهما بالمعنى ، ولم يمنحهما تلك الخصائص والقداسة الممتازة التي منحها القرآن الكريم ؛ تخفيفاً على الأمة ، ورعاية لمصالح الخلق في الحالين من منح ومنع ، ( إن الله بالناس لرؤوف رحيم ) [الحج : 65] . انتهى المقصود من النقل .
منقول
http://www.nokhbah.net/vb/showthread.php?t=4155
Admin- Admin
- أعزائي زوار وأعضاء المنتدي: :
أحبابي في الله >>>>>>>>> :
عدد المساهمات : 599
تاريخ التسجيل : 16/07/2008
العمر : 39
رد: معنى نزول القرآن ومراحل تنزله
روابط يمكن الرجوع والاستعانة بها
http://islamtoday.net/bohooth/artshow-86-106226.htm
نظرات جديدة في علوم القرآن
نزول القرآن الكريم
بين القائلين بتعدد التنزلات والنافين لها
أولاً- معنى نزول القرآن:
1- النزول في اللغة: قال ابن فارس -رحمه الله-: "النون والزاء واللام كلمة صحيحة تدل على هبوط شيء ووقوعه". وكلام ابن فارس هذا يعني أنه ليس للمادة إلا هذا المعنى، وما ساقه كُتَّاب علوم القرآن من أن للمادة معنى ثانياً، وهو الحلول فليس هو معنى آخر للكلمة؛ بل هو –على ما أراه- يعود إلى هذه المادة، ولازم من لوازمها. وما قاله ابن فارس أكَّده الراغب في المفردات، والسمين في عمدة الحفاظ-رحمهم الله جميعاً-.
2- اختلاف العلماء في معنى إنزال القرآن: لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- رسالة قيمة في معنى نزول القرآن الكريم؛ بيَّن فيها أنَّ معنى النزول في كتاب الله عز وجل يتفق مع المعنى اللغوي الحقيقي، وأنَّه لا مجاز في استعماله مع القرآن، وهو ما ينسجم مع رأيه أن لا مجاز في كتاب الله عز وجل. قال -رحمه الله-: "ليس في القرآن ولا في السنة لفظ (نزول) إلا وفيه معنى النزول المعروف، وهذا هو اللائق به، فإنه (أي القرآن) نزل بلغة العرب، ولا تعرف العرب نزولاً إلا بهذا المعنى، ولو أُريدَ غيرُ هذا لكان خطاباً بغير لغتها، ثم هو استعمال اللفظ المعروف له معنى في معنى آخر بلا بيان، وهذا لا يجوز...". ويؤيد رأي ابن تيمية أن نزول القرآن نزول حقيقي وليس بمجاز تلكم الآياتُ التي جاء فيها توكيد لفظ النزول بالمصدر، كما في قوله عز وجل: "وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا"[ الإسراء:106]، وقوله سبحانه وتعالى:"إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا"[ الإنسان:23]. قال النحاس -رحمه الله-: "أجمع النحويون على أنك إذا أكدت الفعل بالمصدر لم يكن مجازاً". ولا شك أن رأي ابن تيمية أيضاً مبناه على رأي السلف في العقيدة، والذين يثبتون صفة العلو لله عز وجل؛ لذلك نجد ثلة من أهل العلم قد تابعوه على قوله. لكن السيوطي -رحمه الله- في الإتقان أورد عن الأصفهاني أنَّ أهل السنة والجماعة اتفقوا على أن كلام الله منزل، واختلفوا في معنى الإنزال. ثم أورد عنه أقوالاً مبناها على القول بتأويل معنى النزول؛ لكون المعنى اللغوي لكلمة النزول لا ينسجم مع ما يسمى بعقيدة الخلف التي تؤول صفة العلو لله عز وجل، وهذا هو رأي معظم الكاتبين في علوم القرآن، كالزرقاني وغيره من المتأخرين. ولقد وجدت لأحد المفسرين المتأخرين وهو الطاهر بن عاشور -رحمه الله- كلاماً نفيساً حول معنى النزول يجعلنا نرى الصورة بشكل أشمل، ونعلم أنَّ الخلاف بين الفريقين خلاف لفظي؛ حيث قال -رحمه الله-: "والإنزال جعل الشيء نازلاً، والنزول الانتقال من علو إلى سفل، وهو حقيقة في انتقال الذوات من علو، ويطلق الإنزال ومادة اشتقاقه بوجه المجاز اللغوي على معانٍ راجعة إلى تشبيه عملٍ بالنزول لاعتبار شرف ورفعة معنوية؛ كما في قوله تعالى: "قد أنزلنا عليكم لباساً"، وقوله: "وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج"؛ لأنَّ خلقَ الله وعطاءَه يُجعل كوصول الشيء من جهة عليا لشرفه. وأما إطلاقه على بلوغ الوصف من الله سبحانه وتعالى إلى الأنبياء فهو إما مجاز عقلي بإسناد النزول إلى الوحي تبعاً لنزول الملك مُبَلِغه الذي يتصل بهذا العالم نازلاً من العالم العلوي؛ قال تعالى: "نزل به الروح الأمين على قلبك" فإنَّ الملك ملابس للكلام المأمور بتبليغه. وإما مجاز لغوي بتشبيه المعاني التي تلقى إلى النبي بشيءٍ وصل من مكانٍ عال، ووجه الشبه هو الارتفاع المعنوي لا سيما إذا كان الوحي كلاماً سمعه الرسول كالقرآن، وكما أنزل إلى موسى عليه السلام، وكما وصف النبي صلى الله عليه وسلم بعض أحوال الوحي في الحديث الصحيح بقوله صلى الله عليه وسلم: (وأحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس فيفصم عني وقد وعيت ما قال)، وأما رؤيا النوم كرؤيا إبراهيم عليه السلام فلا تسمى إنزالاً". وعلى كل حال ليس هناك كبير فائدة أو أثر من وراء هذا الاختلاف؛ لذلك نكتفي بهذا العرض الموجز، وإن كان الأمر يطول الحديث فيه لو أنا سمحنا بذلك. لكن ينبغي أن أشير إلى ما نعتقده من أن السبب وراء هذا الخلاف هو إقحام العقل في الدائرة التي ينبغي أن يقف عندها ولا يتجاوزها.
ثانياً- هل للقرآن الكريم تنزلات:
العلماء في هذه المسألة فريقان؛ فريق رأى أنَّ القرآن له تنزلات عدّة، وفريق عارض هذا القول فقال: إن للقرآن تنزلاً واحداً، هو التنزل المباشر من الله عز وجل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة الملك جبريل عليه السلام.
1- القول بالتنزلات: نظر الفريق الأول -الذين قالوا بالتنزلات- في الآيات التي دلَّت على أنَّ القرآن نزل في رمضان، وفي ليلة القدر والليلة المباركة؛ كما في قوله عز وجل: "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن"[البقرة:185]، وقوله جل جلاله:"إنا أنزلناه في ليلة القدر"[القدر:1]، وقوله سبحانه وتعالى: "إنا أنزلناه في ليلة مباركة"[الدخان:3]، ففهموا منها أنها دلت على تنزل كامل للقرآن في هذه الليلة المباركة من ليالي رمضان، وهي ليلة القدر. ولكن كيف يمكن أن يكون القرآن نزل في ليلة واحدة، ومن المعلوم ضرورةً أنه نزل على قلب النبي صلى الله عليه وسلم مفرقاً طوال الفترة التي قضاها بين الناس منذ بعثته إلى وفاته. فحاولوا أن يوفّقوا بين ذلك الفهم الأولي للآيات الثلاث السابقة، وبين هذه الحقيقة المجمع عليها، فوجدوا لذلك تفسيراً من خلال نظرهم في قوله سبحانه وتعالى: "وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم"[الزخرف:4]، وقوله: "بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ"[البروج:22]، ومن خلال أثر مروي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- يفيد أنَّ القرآن مَرَّ في نزوله بمراحل. فقرر البعض أنَّ هناك تنزلات ثلاثة، أولها تنزل للقرآنِ إلى اللوح المحفوظ، واستشهدوا بقوله تعالى: "وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم"[الزخرف:4]، وقوله: "بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ"[البروج:21-22]. وهنا لا بد أن ننبه إلى أن الزركشي في البرهان، والسيوطي في الإتقان وغيرهما لم يستعملوا لفظ النزول عند حديثهم عن وجود القرآن في اللوح المحفوظ، وإنما ذكروا التنزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ومن ثَمَّ من السماء الدنيا على النبي صلى الله عليه وسلم، ولعل الزرقاني هو أول من وجدته يعبر بالتنزل الأول عن وجود القرآن في اللوح المحفوظ، وتبعه بعض من جاء بعده كالشيخ الذهبي -رحمه الله-. أما التنزل الثاني -أو هو التنزل الأول عند من يرى أنَّ هناك تنزلان- فكان هذا التنزل من اللوح المحفوظ إلى مكان يُسمَى بيت العزة في السماء الدنيا، وقالوا: إنَّ هذا التنزل كان في رمضان في ليلة القدر الليلة المباركة، وهو ما دلت عليه الآيات الثلاث قوله عز وجل:"شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن"، وقوله جل جلاله:"إنا أنزلناه في ليلة القدر"، وقوله عز وجل: "إنا أنزلناه في ليلة مباركة". وقال بعض هؤلاء إنَّ هذا التنزل استغرق أيضاً سنوات في ليال قدر عدة، ولم يسوقوا على ذلك دليلاً مقبولاً. أما التنزل الثالث -أو الثاني عند من يرى أن هناك تنزلان- فقد كان من بيت العزة في السماء الدنيا إلى الأرض على قلب النبي محمد صلى الله عليه وسلم حسب الأحوال والمناسبات. ودليل هذا الفريق هو فهمهم لما سبق من الآيات الثلاث على النحو الذي أوردناه. وقد رد الفريق الآخر على هذا الاستدلال بأن المقصود بنزول القرآن في رمضان أو الليلة المباركة أو ليلة القدر في تلك الآيات هو أن ابتداء نزول القرآن على قلب النبي صلى الله عليه وسلم كان في ذلك الوقت، وليس المقصود نزوله كله، وخاصة أن العلماء مجمعون على أن لفظ القرآن يطلق على القرآن كله، أو على جزء منه. وفسروا آيتي الزخرف "وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم"[الزخرف:4] والبروج "بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ"[البروج:21-22] والتي تدل على وجود القرآن في اللوح المحفوظ بأنها تبين أن القرآن الكريم حاله كحال أي حدث أو أمر أو شيء قد يحدث في هذا الكون ذكر الله عز وجل خبره وتفاصيله في كتاب الكون اللوح المحفوظ، فكما هو معلوم فإنَّ كل شيء مسطور في اللوح المحفوظ. واستدل الفريق الأول أيضاً بالأثر الوارد عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، وهو ما يحتاج منا إلى وقفة؛ لأني أحسب أنَّ هذا الأثر لو لم يكن موجوداً ما وقع هذا الخلاف. وكنت -ولله المنة والفضل- قد جمعت الروايات الواردة لهذا الأثر من مظانها، وقمت بدراسة أسانيدها ومتونها، ووصلت إلى مجموعة من النتائج.
ملاحظات حول روايات هذا الأثر:
1- أنها كلها موقوفة على ابن عباس -رضي الله عنهما-: يلاحظ أن كل الروايات موقوفة على ابن عباس -رضي الله عنهما-، والمسألة من أمور الغيب التي لا تثبت إلا بما جاء في القرآن الكريم، أو السنة المرفوعة المقبولة. هذا إضافة إلى أننا لا نستطيع الجزم بأن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قد أخذ هذا القول عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ إنه قد يكون فهماً له رضي الله عنه فهمه من النصوص، أو فهماً من بعض الرواة لكلام ابن عباس على خلاف ما أراد هو رضي الله عنه، وهذا الذي أميل إليه لاختلاف ألفاظ الروايات كما يلاحظ الناظر فيها -والله أعلم- 2- عدم ورود مثل هذا الخبر عن غير ابن عباس -رضي الله عنهما- من الصحابة رضي الله عنهم: لم أجد هذا الخبر أو معناه وارداً عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، وهذا يوهن أن تكون الرواية مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ كيف لأمر مثل هذا متعلق بكتاب الله عز وجل لا يرويه إلا صحابي واحد، ومن صغار الصحابة أيضاً.
3- ذكر بيت العزة: بيت العزة هذا المكان المذكور في بعض روايات هذا الأثر لم يذكر لا في القرآن، ولا في السنَّة حسب اطلاعي؛ لذلك فهو أمر غيبي نحتاج حتى نثبته إلى دليل مقبول أيضاً، وهذا أمر غير متوافر. والقول بأن قول الصحابي فيما لا مجال للرأي فيه يعد في منزلة المرفوع إذا عرف عنه أنه لا يأخذ بالإسرائيليات من المسائل غير المتفق عليها بين أهل العلم، لذلك في النفس منه شيء؛ خاصة إذا علمت أن قول الصحابي مختلف في حجيته في فروع الأحكام، فكيف في العقائد والتصورات؟!.
4- ذكر مواقع النجوم في بعض روايات الأثر: مواقع النجوم المذكورة في سورة النجم في قوله تعالى: "فلا أقسم بمواقع النجوم" لا يقصد بها أوقات نزول القرآن الكريم، ولا مواقع نزوله؛ كما جاء في بعض روايات أثر ابن عباس؛ بل المقصود بها مواقع النجوم التي نشاهدها في السماء، وفي القسم بها دليل على عظم شأنها. وهذا التفسير أستطيع أن أجزم أن ترجمان القرآن ابن عباس -رضي الله عنهما- مبرأٌ منه، لأنه مخالف للغة، وما صح من روايات في ذلك حتى عن ابن عباس، ومعلوم أن ابن عباس هو في التفسير واللغة. كذلك الرواية في إسنادها راوٍ متروك الحديث، أي أنها واهية لا تستحق النظر فيها.
5- الاختلاف بين روايات الأثر: الاختلاف بين روايات الأثر من حيث تحديد بعض الروايات مدة نزول القرآن في عشرين سنة، ومن المعلوم أن مدة نزول القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم كانت ثلاثة وعشرين عاماً، وهو المروي عن ابن عباس نفسه في الصحاح، فقد روى البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: (أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ فَمَكَثَ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ، فَهَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَمَكَثَ بِهَا عَشْرَ سِنِينَ ثُمَّ تُوُفِّيَ صلى الله عليه وسلم).
وهذا يجعل الشك يتطرق إلى الرواية.
ملحوظات على هذا القول نفسه: إن الأخذ بهذا القول يدفع للقول بأن جبريل عليه السلام لم يأخذ القرآن عن الله عز وجل مباشرة، خلافاً لما دلت عليه نصوص القرآن والسنة، وهو ما يفتح مجالاً لبعض أصحاب الآراء المنحرفة لدس آرائهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وكذلك قد أخبر -أي الله عز وجل- في غير موضع من القرآن أنَّ القرآن نزل منه، وأنه نزل به جبريل منه... قال تعالى: "أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق"، وقال تعالى: "قل نزله روح القدس من ربك بالحق"... فبين أنَّ جبريل نزّله من الله سبحانه وتعالى لا من هواء، ولا من لوح، ولا من غير ذلك...، فمن قال إنه منزل من بعض المخلوقات كاللوح والهواء فهو مفتر على الله عز وجل، مكذب لكتاب الله عز وجل، متبع لغير سبيل المؤمنين".
2- القول بالتنزل الواحد: أما الفريق الثاني من أهل العلم فقد قال بالتنزل الواحد، أي أنَّ جبريل عليه السلام أخذ القرآن مباشرة من عند الله عز وجل، ونزل به على النبي صلى الله عليه وسلم. وقد كان ابتداء إنزاله في ليلة القدر، ثم استمر نزوله بعد ذلك منجماً في أوقات مختلفة. وينسب هذا القول إلى الشعبي، ومحمد بن إسحاق-رحمهما الله- من علماء السلف، وقال به ابن العربي والنسفي -رحمهما الله- من العلماء المتقدمين. ومن المتأخرين قال به الشيخ محمد عبده في تفسيره لجزء عم ، وتلميذه محمد رشيد رضا، والدكتور صبحي الصالح في مباحثه، والشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمهم الله جميعاً- وأستاذنا الدكتور فضل حسن عباس-حفظه الله-.
3- القول المختار: عند النظر في أدلة الفريقين يجد الباحث نفسه تميل إلى الأخذ بالقول الثاني، ولعل أستاذنا د.فضل حسن عباس -حفظه الله- قد كفانا كثرة الكلام حول اختيار هذا القول؛ حيث قال-حفظه الله-: "وإنما اخترت هذا القول لما يلي: أولاً: لأنَّ القول بأنَّ القرآن الكريم أُنزل من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا في ليلة القدر في رمضان، لم يصل إلينا من كتاب أو سنة صحيحة، وإنما وردت آثار موقوفة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وهي تحتاج إلى تمحيص من حيث أسانيدها. والقول بأن مثل هذا لا يمكن أن يكون رأياً لابن عبّاس غير مسلّم، فقد يكون ابن عباس فهم الآية هذا الفهم إن صحت هذه الأقوال عنه. ثانياً: يلزم على القول بأن القرآن الكريم أُنزل في شهر رمضان دفعة واحدة إلى السماء الدنيا، عدم نزوله على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، في رمضان؛ لأنهم يرون أن الذي ذكرته الآيات في حديثها عن نزول القرآن في رمضان هو نزوله دفعة واحدة إلى السماء الدنيا. وهذا غير مُسلّم به فإن الذي أجمعت عليه الأمة إجماعاً مستنداً إلى السنة الصحيحة، وإلى الكتاب الكريم هو أن القرآن نزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في رمضان. ثالثاً: إن المتدبر للآية الكريمة يجزم بما لا يحتمل شكاً بأنها تتحدث عن نزول القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم، فلنتدبر هذه الآية الكريمة: "شهر رمضان الذي أُنزلَ فيه القرآنُ هدىً للنَّاس وبينات من الهدى والفرقان"[البقرة: 185]، فلو كان المقصود نزوله إلى سماء الدنيا لم يكن هناك كبير فائدة في قوله تعالى: "هدىً للناس" إنما الأمر الذي يطمئن إليه القلب وتستريح إليه النفس هو أنَّ القرآن نزل على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هدى للناس. رابعاً: إنَّ الله تبارك وتعالى يَمُنُّ علينا بالهداية بأن كرّمنا بهذا القرآن الكريم "بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان". وهذه المنّة إنما تتحقق بإنزال القرآن لنتعظ منه ونعتبر، وهذا أمر غير متحقق بنزوله إلى سماء الدنيا، يقول السيد محمد رشيد رضا -رحمه الله-: "وأما معنى إنزال القرآن في رمضان مع أنَّ المعروف باليقين أنَّ القرآن نزل منجماً متفرقاً في مدة البعثة كلها فهو أن ابتداء نزوله كان في رمضان، وذلك في ليلة منه سميت ليلة القدر، أي الشرف، والليلة المباركة، كما في آيات أخرى، وهذا المعنى ظاهر لا إشكال فيه، على أن لفظ القرآن يُطلق على هذا الكتاب كله، ويُطلق على بعضه. وقد ظنَّ الذين تصدوا للتفسير منذ عصر الرواية أن الآية مشكلة، ورأوا في حل الإشكال أن القرآن نزل ليلة القدر من رمضان إلى سماء الدنيا، وكان في اللوح المحفوظ فوق سبع سماوات، ثم نزل على النبي صلى الله عليه وسلم منجماً بالتدريج، وظاهر قولهم هذا أنه لم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان منه شيء خلافاً لظاهر الآيات، ولا تظهر المنة علينا، ولا الحكمة في جعل رمضان شهر الصوم على قولهم هذا؛ لأن وجود القرآن في سماء الدنيا كوجوده في غيرها من السماوات أو اللوح المحفوظ من حيث إنه لم يكن هداية لنا، ولا تظهر لنا فائدة في هذا الإنزال ولا في الإخبار به، وقد زادوا على هذا روايات في كون جميع الكتب السماوية أنزلت في رمضان. كما قالوا إن الأمم السابقة كلفت صيام رمضان".
3- الحكمة من إنزاله جملة إلى السماء عند من يرى ذلك: القائلون بتعدد التنزلات يرون أن لإنزال القرآن جملة إلى السماء الدنيا فوائد منها: الفائدة الأولى: تفخيم شأن القرآن وشأن من سينزل إليه، وذلك بإعلام سكان السماوات السبع أن هذا آخر الكتب المنزلة على خاتم الرسل لأشرف الأمم قد قربناه إليها لننزله عليها، وهي الأمة الإسـلامية، وفي هذا تـنويه بشأن المنزَل، والمنزَل عليه، والمنزَل إليهم وهم بنو آدم، ففيه تعظيم شأنهم عند الملائكة، وتعريفهم عناية الله بهم، ورحمته لهم، ثم إن وضعه في مكان يسمى بيت العزة يدل على إعزازه وتكريمه. ولولا أن الحكمة الإلهية اقتضت وصوله إليهم منجماً بحسب الوقائع لهبط به إلى الأرض جملة كسائر الكتب المنزلة قبله، ولكن الله باين بينه وبينها فجعل له الأمرين.
الفائدة الثانية: تفضيل القرآن الكريم على غيره من الكتب السماوية السابقة، وذلك بإنزاله مرتين، مرة جملة، ومرة مفرقاً، بخلاف الكتب السماوية السابقة، فقد كانت تنزل جملةً مرة واحدة، وبذلك شارك القرآن الكتب السماوية في الأولى، وانفرد في الفضل عليها بالثانية، وهذا يعود بالتفضيل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء السابقين. ولعل الناظر في هذه الحكم يزداد قناعة بضعف القول بتعدد النزول؛ لأنه لا حكمة من تلك التنزلات التي ذكروها، وما ذكروه إنما هو إنشاء وكلام لا تجد له مستنداً من العلم، فمبناه على الظن غير المستند إلى دليل، وأساس هذا الظن هو محاولة المفاضلة بين القرآن وغيره من الكتب؛ وكأنه يلحق القرآن نقيصة إذا لم ينزل جملة؛ هذا إن صحّ أن غيره نزل جملة. إن القرآن هو خير الكتب، ويكفي لخيريته أنه حُفِظ إلى قيام الساعة.
http://islamtoday.net/bohooth/artshow-86-106226.htm
نظرات جديدة في علوم القرآن
نزول القرآن الكريم
بين القائلين بتعدد التنزلات والنافين لها
أولاً- معنى نزول القرآن:
1- النزول في اللغة: قال ابن فارس -رحمه الله-: "النون والزاء واللام كلمة صحيحة تدل على هبوط شيء ووقوعه". وكلام ابن فارس هذا يعني أنه ليس للمادة إلا هذا المعنى، وما ساقه كُتَّاب علوم القرآن من أن للمادة معنى ثانياً، وهو الحلول فليس هو معنى آخر للكلمة؛ بل هو –على ما أراه- يعود إلى هذه المادة، ولازم من لوازمها. وما قاله ابن فارس أكَّده الراغب في المفردات، والسمين في عمدة الحفاظ-رحمهم الله جميعاً-.
2- اختلاف العلماء في معنى إنزال القرآن: لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- رسالة قيمة في معنى نزول القرآن الكريم؛ بيَّن فيها أنَّ معنى النزول في كتاب الله عز وجل يتفق مع المعنى اللغوي الحقيقي، وأنَّه لا مجاز في استعماله مع القرآن، وهو ما ينسجم مع رأيه أن لا مجاز في كتاب الله عز وجل. قال -رحمه الله-: "ليس في القرآن ولا في السنة لفظ (نزول) إلا وفيه معنى النزول المعروف، وهذا هو اللائق به، فإنه (أي القرآن) نزل بلغة العرب، ولا تعرف العرب نزولاً إلا بهذا المعنى، ولو أُريدَ غيرُ هذا لكان خطاباً بغير لغتها، ثم هو استعمال اللفظ المعروف له معنى في معنى آخر بلا بيان، وهذا لا يجوز...". ويؤيد رأي ابن تيمية أن نزول القرآن نزول حقيقي وليس بمجاز تلكم الآياتُ التي جاء فيها توكيد لفظ النزول بالمصدر، كما في قوله عز وجل: "وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا"[ الإسراء:106]، وقوله سبحانه وتعالى:"إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا"[ الإنسان:23]. قال النحاس -رحمه الله-: "أجمع النحويون على أنك إذا أكدت الفعل بالمصدر لم يكن مجازاً". ولا شك أن رأي ابن تيمية أيضاً مبناه على رأي السلف في العقيدة، والذين يثبتون صفة العلو لله عز وجل؛ لذلك نجد ثلة من أهل العلم قد تابعوه على قوله. لكن السيوطي -رحمه الله- في الإتقان أورد عن الأصفهاني أنَّ أهل السنة والجماعة اتفقوا على أن كلام الله منزل، واختلفوا في معنى الإنزال. ثم أورد عنه أقوالاً مبناها على القول بتأويل معنى النزول؛ لكون المعنى اللغوي لكلمة النزول لا ينسجم مع ما يسمى بعقيدة الخلف التي تؤول صفة العلو لله عز وجل، وهذا هو رأي معظم الكاتبين في علوم القرآن، كالزرقاني وغيره من المتأخرين. ولقد وجدت لأحد المفسرين المتأخرين وهو الطاهر بن عاشور -رحمه الله- كلاماً نفيساً حول معنى النزول يجعلنا نرى الصورة بشكل أشمل، ونعلم أنَّ الخلاف بين الفريقين خلاف لفظي؛ حيث قال -رحمه الله-: "والإنزال جعل الشيء نازلاً، والنزول الانتقال من علو إلى سفل، وهو حقيقة في انتقال الذوات من علو، ويطلق الإنزال ومادة اشتقاقه بوجه المجاز اللغوي على معانٍ راجعة إلى تشبيه عملٍ بالنزول لاعتبار شرف ورفعة معنوية؛ كما في قوله تعالى: "قد أنزلنا عليكم لباساً"، وقوله: "وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج"؛ لأنَّ خلقَ الله وعطاءَه يُجعل كوصول الشيء من جهة عليا لشرفه. وأما إطلاقه على بلوغ الوصف من الله سبحانه وتعالى إلى الأنبياء فهو إما مجاز عقلي بإسناد النزول إلى الوحي تبعاً لنزول الملك مُبَلِغه الذي يتصل بهذا العالم نازلاً من العالم العلوي؛ قال تعالى: "نزل به الروح الأمين على قلبك" فإنَّ الملك ملابس للكلام المأمور بتبليغه. وإما مجاز لغوي بتشبيه المعاني التي تلقى إلى النبي بشيءٍ وصل من مكانٍ عال، ووجه الشبه هو الارتفاع المعنوي لا سيما إذا كان الوحي كلاماً سمعه الرسول كالقرآن، وكما أنزل إلى موسى عليه السلام، وكما وصف النبي صلى الله عليه وسلم بعض أحوال الوحي في الحديث الصحيح بقوله صلى الله عليه وسلم: (وأحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس فيفصم عني وقد وعيت ما قال)، وأما رؤيا النوم كرؤيا إبراهيم عليه السلام فلا تسمى إنزالاً". وعلى كل حال ليس هناك كبير فائدة أو أثر من وراء هذا الاختلاف؛ لذلك نكتفي بهذا العرض الموجز، وإن كان الأمر يطول الحديث فيه لو أنا سمحنا بذلك. لكن ينبغي أن أشير إلى ما نعتقده من أن السبب وراء هذا الخلاف هو إقحام العقل في الدائرة التي ينبغي أن يقف عندها ولا يتجاوزها.
ثانياً- هل للقرآن الكريم تنزلات:
العلماء في هذه المسألة فريقان؛ فريق رأى أنَّ القرآن له تنزلات عدّة، وفريق عارض هذا القول فقال: إن للقرآن تنزلاً واحداً، هو التنزل المباشر من الله عز وجل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة الملك جبريل عليه السلام.
1- القول بالتنزلات: نظر الفريق الأول -الذين قالوا بالتنزلات- في الآيات التي دلَّت على أنَّ القرآن نزل في رمضان، وفي ليلة القدر والليلة المباركة؛ كما في قوله عز وجل: "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن"[البقرة:185]، وقوله جل جلاله:"إنا أنزلناه في ليلة القدر"[القدر:1]، وقوله سبحانه وتعالى: "إنا أنزلناه في ليلة مباركة"[الدخان:3]، ففهموا منها أنها دلت على تنزل كامل للقرآن في هذه الليلة المباركة من ليالي رمضان، وهي ليلة القدر. ولكن كيف يمكن أن يكون القرآن نزل في ليلة واحدة، ومن المعلوم ضرورةً أنه نزل على قلب النبي صلى الله عليه وسلم مفرقاً طوال الفترة التي قضاها بين الناس منذ بعثته إلى وفاته. فحاولوا أن يوفّقوا بين ذلك الفهم الأولي للآيات الثلاث السابقة، وبين هذه الحقيقة المجمع عليها، فوجدوا لذلك تفسيراً من خلال نظرهم في قوله سبحانه وتعالى: "وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم"[الزخرف:4]، وقوله: "بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ"[البروج:22]، ومن خلال أثر مروي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- يفيد أنَّ القرآن مَرَّ في نزوله بمراحل. فقرر البعض أنَّ هناك تنزلات ثلاثة، أولها تنزل للقرآنِ إلى اللوح المحفوظ، واستشهدوا بقوله تعالى: "وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم"[الزخرف:4]، وقوله: "بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ"[البروج:21-22]. وهنا لا بد أن ننبه إلى أن الزركشي في البرهان، والسيوطي في الإتقان وغيرهما لم يستعملوا لفظ النزول عند حديثهم عن وجود القرآن في اللوح المحفوظ، وإنما ذكروا التنزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ومن ثَمَّ من السماء الدنيا على النبي صلى الله عليه وسلم، ولعل الزرقاني هو أول من وجدته يعبر بالتنزل الأول عن وجود القرآن في اللوح المحفوظ، وتبعه بعض من جاء بعده كالشيخ الذهبي -رحمه الله-. أما التنزل الثاني -أو هو التنزل الأول عند من يرى أنَّ هناك تنزلان- فكان هذا التنزل من اللوح المحفوظ إلى مكان يُسمَى بيت العزة في السماء الدنيا، وقالوا: إنَّ هذا التنزل كان في رمضان في ليلة القدر الليلة المباركة، وهو ما دلت عليه الآيات الثلاث قوله عز وجل:"شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن"، وقوله جل جلاله:"إنا أنزلناه في ليلة القدر"، وقوله عز وجل: "إنا أنزلناه في ليلة مباركة". وقال بعض هؤلاء إنَّ هذا التنزل استغرق أيضاً سنوات في ليال قدر عدة، ولم يسوقوا على ذلك دليلاً مقبولاً. أما التنزل الثالث -أو الثاني عند من يرى أن هناك تنزلان- فقد كان من بيت العزة في السماء الدنيا إلى الأرض على قلب النبي محمد صلى الله عليه وسلم حسب الأحوال والمناسبات. ودليل هذا الفريق هو فهمهم لما سبق من الآيات الثلاث على النحو الذي أوردناه. وقد رد الفريق الآخر على هذا الاستدلال بأن المقصود بنزول القرآن في رمضان أو الليلة المباركة أو ليلة القدر في تلك الآيات هو أن ابتداء نزول القرآن على قلب النبي صلى الله عليه وسلم كان في ذلك الوقت، وليس المقصود نزوله كله، وخاصة أن العلماء مجمعون على أن لفظ القرآن يطلق على القرآن كله، أو على جزء منه. وفسروا آيتي الزخرف "وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم"[الزخرف:4] والبروج "بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ"[البروج:21-22] والتي تدل على وجود القرآن في اللوح المحفوظ بأنها تبين أن القرآن الكريم حاله كحال أي حدث أو أمر أو شيء قد يحدث في هذا الكون ذكر الله عز وجل خبره وتفاصيله في كتاب الكون اللوح المحفوظ، فكما هو معلوم فإنَّ كل شيء مسطور في اللوح المحفوظ. واستدل الفريق الأول أيضاً بالأثر الوارد عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، وهو ما يحتاج منا إلى وقفة؛ لأني أحسب أنَّ هذا الأثر لو لم يكن موجوداً ما وقع هذا الخلاف. وكنت -ولله المنة والفضل- قد جمعت الروايات الواردة لهذا الأثر من مظانها، وقمت بدراسة أسانيدها ومتونها، ووصلت إلى مجموعة من النتائج.
ملاحظات حول روايات هذا الأثر:
1- أنها كلها موقوفة على ابن عباس -رضي الله عنهما-: يلاحظ أن كل الروايات موقوفة على ابن عباس -رضي الله عنهما-، والمسألة من أمور الغيب التي لا تثبت إلا بما جاء في القرآن الكريم، أو السنة المرفوعة المقبولة. هذا إضافة إلى أننا لا نستطيع الجزم بأن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قد أخذ هذا القول عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ إنه قد يكون فهماً له رضي الله عنه فهمه من النصوص، أو فهماً من بعض الرواة لكلام ابن عباس على خلاف ما أراد هو رضي الله عنه، وهذا الذي أميل إليه لاختلاف ألفاظ الروايات كما يلاحظ الناظر فيها -والله أعلم- 2- عدم ورود مثل هذا الخبر عن غير ابن عباس -رضي الله عنهما- من الصحابة رضي الله عنهم: لم أجد هذا الخبر أو معناه وارداً عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، وهذا يوهن أن تكون الرواية مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ كيف لأمر مثل هذا متعلق بكتاب الله عز وجل لا يرويه إلا صحابي واحد، ومن صغار الصحابة أيضاً.
3- ذكر بيت العزة: بيت العزة هذا المكان المذكور في بعض روايات هذا الأثر لم يذكر لا في القرآن، ولا في السنَّة حسب اطلاعي؛ لذلك فهو أمر غيبي نحتاج حتى نثبته إلى دليل مقبول أيضاً، وهذا أمر غير متوافر. والقول بأن قول الصحابي فيما لا مجال للرأي فيه يعد في منزلة المرفوع إذا عرف عنه أنه لا يأخذ بالإسرائيليات من المسائل غير المتفق عليها بين أهل العلم، لذلك في النفس منه شيء؛ خاصة إذا علمت أن قول الصحابي مختلف في حجيته في فروع الأحكام، فكيف في العقائد والتصورات؟!.
4- ذكر مواقع النجوم في بعض روايات الأثر: مواقع النجوم المذكورة في سورة النجم في قوله تعالى: "فلا أقسم بمواقع النجوم" لا يقصد بها أوقات نزول القرآن الكريم، ولا مواقع نزوله؛ كما جاء في بعض روايات أثر ابن عباس؛ بل المقصود بها مواقع النجوم التي نشاهدها في السماء، وفي القسم بها دليل على عظم شأنها. وهذا التفسير أستطيع أن أجزم أن ترجمان القرآن ابن عباس -رضي الله عنهما- مبرأٌ منه، لأنه مخالف للغة، وما صح من روايات في ذلك حتى عن ابن عباس، ومعلوم أن ابن عباس هو في التفسير واللغة. كذلك الرواية في إسنادها راوٍ متروك الحديث، أي أنها واهية لا تستحق النظر فيها.
5- الاختلاف بين روايات الأثر: الاختلاف بين روايات الأثر من حيث تحديد بعض الروايات مدة نزول القرآن في عشرين سنة، ومن المعلوم أن مدة نزول القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم كانت ثلاثة وعشرين عاماً، وهو المروي عن ابن عباس نفسه في الصحاح، فقد روى البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: (أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ فَمَكَثَ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ، فَهَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَمَكَثَ بِهَا عَشْرَ سِنِينَ ثُمَّ تُوُفِّيَ صلى الله عليه وسلم).
وهذا يجعل الشك يتطرق إلى الرواية.
ملحوظات على هذا القول نفسه: إن الأخذ بهذا القول يدفع للقول بأن جبريل عليه السلام لم يأخذ القرآن عن الله عز وجل مباشرة، خلافاً لما دلت عليه نصوص القرآن والسنة، وهو ما يفتح مجالاً لبعض أصحاب الآراء المنحرفة لدس آرائهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وكذلك قد أخبر -أي الله عز وجل- في غير موضع من القرآن أنَّ القرآن نزل منه، وأنه نزل به جبريل منه... قال تعالى: "أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق"، وقال تعالى: "قل نزله روح القدس من ربك بالحق"... فبين أنَّ جبريل نزّله من الله سبحانه وتعالى لا من هواء، ولا من لوح، ولا من غير ذلك...، فمن قال إنه منزل من بعض المخلوقات كاللوح والهواء فهو مفتر على الله عز وجل، مكذب لكتاب الله عز وجل، متبع لغير سبيل المؤمنين".
2- القول بالتنزل الواحد: أما الفريق الثاني من أهل العلم فقد قال بالتنزل الواحد، أي أنَّ جبريل عليه السلام أخذ القرآن مباشرة من عند الله عز وجل، ونزل به على النبي صلى الله عليه وسلم. وقد كان ابتداء إنزاله في ليلة القدر، ثم استمر نزوله بعد ذلك منجماً في أوقات مختلفة. وينسب هذا القول إلى الشعبي، ومحمد بن إسحاق-رحمهما الله- من علماء السلف، وقال به ابن العربي والنسفي -رحمهما الله- من العلماء المتقدمين. ومن المتأخرين قال به الشيخ محمد عبده في تفسيره لجزء عم ، وتلميذه محمد رشيد رضا، والدكتور صبحي الصالح في مباحثه، والشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمهم الله جميعاً- وأستاذنا الدكتور فضل حسن عباس-حفظه الله-.
3- القول المختار: عند النظر في أدلة الفريقين يجد الباحث نفسه تميل إلى الأخذ بالقول الثاني، ولعل أستاذنا د.فضل حسن عباس -حفظه الله- قد كفانا كثرة الكلام حول اختيار هذا القول؛ حيث قال-حفظه الله-: "وإنما اخترت هذا القول لما يلي: أولاً: لأنَّ القول بأنَّ القرآن الكريم أُنزل من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا في ليلة القدر في رمضان، لم يصل إلينا من كتاب أو سنة صحيحة، وإنما وردت آثار موقوفة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وهي تحتاج إلى تمحيص من حيث أسانيدها. والقول بأن مثل هذا لا يمكن أن يكون رأياً لابن عبّاس غير مسلّم، فقد يكون ابن عباس فهم الآية هذا الفهم إن صحت هذه الأقوال عنه. ثانياً: يلزم على القول بأن القرآن الكريم أُنزل في شهر رمضان دفعة واحدة إلى السماء الدنيا، عدم نزوله على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، في رمضان؛ لأنهم يرون أن الذي ذكرته الآيات في حديثها عن نزول القرآن في رمضان هو نزوله دفعة واحدة إلى السماء الدنيا. وهذا غير مُسلّم به فإن الذي أجمعت عليه الأمة إجماعاً مستنداً إلى السنة الصحيحة، وإلى الكتاب الكريم هو أن القرآن نزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في رمضان. ثالثاً: إن المتدبر للآية الكريمة يجزم بما لا يحتمل شكاً بأنها تتحدث عن نزول القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم، فلنتدبر هذه الآية الكريمة: "شهر رمضان الذي أُنزلَ فيه القرآنُ هدىً للنَّاس وبينات من الهدى والفرقان"[البقرة: 185]، فلو كان المقصود نزوله إلى سماء الدنيا لم يكن هناك كبير فائدة في قوله تعالى: "هدىً للناس" إنما الأمر الذي يطمئن إليه القلب وتستريح إليه النفس هو أنَّ القرآن نزل على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هدى للناس. رابعاً: إنَّ الله تبارك وتعالى يَمُنُّ علينا بالهداية بأن كرّمنا بهذا القرآن الكريم "بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان". وهذه المنّة إنما تتحقق بإنزال القرآن لنتعظ منه ونعتبر، وهذا أمر غير متحقق بنزوله إلى سماء الدنيا، يقول السيد محمد رشيد رضا -رحمه الله-: "وأما معنى إنزال القرآن في رمضان مع أنَّ المعروف باليقين أنَّ القرآن نزل منجماً متفرقاً في مدة البعثة كلها فهو أن ابتداء نزوله كان في رمضان، وذلك في ليلة منه سميت ليلة القدر، أي الشرف، والليلة المباركة، كما في آيات أخرى، وهذا المعنى ظاهر لا إشكال فيه، على أن لفظ القرآن يُطلق على هذا الكتاب كله، ويُطلق على بعضه. وقد ظنَّ الذين تصدوا للتفسير منذ عصر الرواية أن الآية مشكلة، ورأوا في حل الإشكال أن القرآن نزل ليلة القدر من رمضان إلى سماء الدنيا، وكان في اللوح المحفوظ فوق سبع سماوات، ثم نزل على النبي صلى الله عليه وسلم منجماً بالتدريج، وظاهر قولهم هذا أنه لم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان منه شيء خلافاً لظاهر الآيات، ولا تظهر المنة علينا، ولا الحكمة في جعل رمضان شهر الصوم على قولهم هذا؛ لأن وجود القرآن في سماء الدنيا كوجوده في غيرها من السماوات أو اللوح المحفوظ من حيث إنه لم يكن هداية لنا، ولا تظهر لنا فائدة في هذا الإنزال ولا في الإخبار به، وقد زادوا على هذا روايات في كون جميع الكتب السماوية أنزلت في رمضان. كما قالوا إن الأمم السابقة كلفت صيام رمضان".
3- الحكمة من إنزاله جملة إلى السماء عند من يرى ذلك: القائلون بتعدد التنزلات يرون أن لإنزال القرآن جملة إلى السماء الدنيا فوائد منها: الفائدة الأولى: تفخيم شأن القرآن وشأن من سينزل إليه، وذلك بإعلام سكان السماوات السبع أن هذا آخر الكتب المنزلة على خاتم الرسل لأشرف الأمم قد قربناه إليها لننزله عليها، وهي الأمة الإسـلامية، وفي هذا تـنويه بشأن المنزَل، والمنزَل عليه، والمنزَل إليهم وهم بنو آدم، ففيه تعظيم شأنهم عند الملائكة، وتعريفهم عناية الله بهم، ورحمته لهم، ثم إن وضعه في مكان يسمى بيت العزة يدل على إعزازه وتكريمه. ولولا أن الحكمة الإلهية اقتضت وصوله إليهم منجماً بحسب الوقائع لهبط به إلى الأرض جملة كسائر الكتب المنزلة قبله، ولكن الله باين بينه وبينها فجعل له الأمرين.
الفائدة الثانية: تفضيل القرآن الكريم على غيره من الكتب السماوية السابقة، وذلك بإنزاله مرتين، مرة جملة، ومرة مفرقاً، بخلاف الكتب السماوية السابقة، فقد كانت تنزل جملةً مرة واحدة، وبذلك شارك القرآن الكتب السماوية في الأولى، وانفرد في الفضل عليها بالثانية، وهذا يعود بالتفضيل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء السابقين. ولعل الناظر في هذه الحكم يزداد قناعة بضعف القول بتعدد النزول؛ لأنه لا حكمة من تلك التنزلات التي ذكروها، وما ذكروه إنما هو إنشاء وكلام لا تجد له مستنداً من العلم، فمبناه على الظن غير المستند إلى دليل، وأساس هذا الظن هو محاولة المفاضلة بين القرآن وغيره من الكتب؛ وكأنه يلحق القرآن نقيصة إذا لم ينزل جملة؛ هذا إن صحّ أن غيره نزل جملة. إن القرآن هو خير الكتب، ويكفي لخيريته أنه حُفِظ إلى قيام الساعة.
Admin- Admin
- أعزائي زوار وأعضاء المنتدي: :
أحبابي في الله >>>>>>>>> :
عدد المساهمات : 599
تاريخ التسجيل : 16/07/2008
العمر : 39
رد: معنى نزول القرآن ومراحل تنزله
http://www.alshaykhan.com/library/show.asp?id=25
Admin- Admin
- أعزائي زوار وأعضاء المنتدي: :
أحبابي في الله >>>>>>>>> :
عدد المساهمات : 599
تاريخ التسجيل : 16/07/2008
العمر : 39
رد: معنى نزول القرآن ومراحل تنزله
مشاء الله ولا حول ولا قوه الا بالله العلي العظيم
ان ربي علي كل شيئ قدير يعلم مل يلج في الارض وما يعرج فيها
سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم
ان ربي علي كل شيئ قدير يعلم مل يلج في الارض وما يعرج فيها
سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم
زائر- زائر
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الأربعاء أغسطس 29, 2012 3:03 pm من طرف Admin
» فوائد تربوية وإيمانية ودعوية من تفسير العلامة السعدي رحمه الله تعالى
الأربعاء أغسطس 29, 2012 2:45 pm من طرف Admin
» معني "حسبنا الله ونعم الوكيل"
الجمعة يونيو 15, 2012 4:34 pm من طرف Admin
» معظم محاضرات الدكتور ابراهيم الدويش بجودة عالية وروابط مباشرة
الجمعة يونيو 08, 2012 3:23 am من طرف Admin
» دموع علي استار الكعبة .. مشاري
الأربعاء مايو 23, 2012 4:30 pm من طرف Admin
» كيف يتخلص الإنسان من ذنوب الخلَوات؟
الإثنين مايو 21, 2012 1:08 pm من طرف Admin
» كان يدعو الله ألا يقع في المعصية ثم وقع فيها ، فأصابه الجزع
الإثنين مايو 21, 2012 1:03 pm من طرف Admin
» الجمع بين حديثي ( لأعلمن أقواماً يأتون بحسنات ) و ( كل أمتي معافى إلا المجاهرين )
الإثنين مايو 21, 2012 12:57 pm من طرف Admin
» يحافظ على الطاعات ولكنه يقع في معصية خطيرة
الإثنين مايو 21, 2012 12:21 pm من طرف Admin